### **"سيدة الكوابيس": تشريح الجحيم في متاهة النفس البشرية**
في أعماق النفس البشرية، حيث تتلاشى الحدود بين
الوعي واللاوعي، وبين الحقيقة والخيال، تكمن منطقة شاسعة من الظلام، لا يجرؤ على
استكشافها إلا قلة. هذه المنطقة هي مسرح الأحداث لرواية "سيدة الكوابيس"
للكاتب شريف سالم، عمل أدبي لا يكتفي بتقديم قصة تشويق وإثارة، بل يغوص عميقًا في
أغوار الجنون، والانتقام، والطموح العلمي المنفلت من عقاله، ليطرح أسئلة فلسفية
معقدة حول طبيعة الشر، وحدود العدالة، والثمن الباهظ الذي قد ندفعه في سعينا لكشف
الحقيقة أو تحقيق الرغبات.
![]() |
### **"سيدة الكوابيس": تشريح الجحيم في متاهة النفس البشرية** |
- تُبنى الرواية على هيكل سردي متقاطع، يجمع ثلاث شخصيات رئيسية، كل منها تدور في فلكها
- المظلم الخاص، قبل أن تتصادم مساراتهم في نقطة انفجار حتمية. هذا التصادم ليس مجرد حبكة
- روائية، بل هو رمز للصراع الأزلي بين دوافع الإنسان الأساسية: الرغبة في الانتقام، والحاجة إلى
- النجاة، وشهوة
السيطرة.
**أقطاب الصراع الثلاثة المنتقم، واللغز، والمستغل**
الشخصية الأولى التي تقدمها لنا الرواية هي **"الرجل الساعي للثأر"**. هو محرك القصة، وقوة الدفع الأولية التي تُطلق شرارة الأحداث. مدفوعًا بجريمة بشعة لم تُكشف تفاصيلها كاملة في البداية، يتحول هذا الرجل إلى تجسيد حي للانتقام.
- هو ليس بطلاً بالمعنى التقليدي، بل هو ضحية قررت أن تأخذ القانون بيدها، وأن تصنع عدالتها
- الخاصة في عالم خذلها. رحلته ليست مجرد بحث عن القاتل، بل هي رحلة استكشاف للجانب المظلم
- في ذاته. فإلى أي مدى يمكن أن يذهب الإنسان في سبيل الثأر قبل أن يصبح هو نفسه وحشًا لا يختلف
- عمن يطارده؟ يمثل هذا الرجل إشكالية العدالة الفردية في مواجهة عجز أو فساد النظام، وهو سؤال
- أخلاقي
شائك يعالجه الأدب مرارًا وتكرارًا.
في المقابل، تقف الشخصية المحورية التي استمدت الرواية منها اسمها: **"المرأة التي تخفي سرًا قاتلًا"**. هي "سيدة الكوابيس" الفعلية، ليست بالضرورة لأنها مصدرها، بل لأنها تعيش فيها وتتغذى عليها.
- هذه المرأة هي اللغز الأكبر في الرواية. تتخفى خلف قناع الجنون لتفادي حكم الإعدام، مما يضع
- القارئ في حيرة دائمة: هل هي ممثلة بارعة تستغل ثغرات النظام النفسي والقانوني، أم أنها بالفعل
- ضحية لصدمة عنيفة دفعتها إلى حافة الانهيار
حيث يمتزج فيها الذنب بالبراءة، والواقع بالكابوس؟ إنها شخصية مركبة تعكس هشاشة العقل البشري وقدرته المذهلة على بناء دفاعات نفسية معقدة. كوابيسها ليست مجرد أحلام مزعجة، بل هي أرشيف مشوه لذكريات مؤلمة، أو ربما مفتاح الحقيقة الذي يخشى الجميع الوصول إليه.
أما القطب الثالث الذي يكمل هذا المثلث الخطير، فهو **"الطبيب النفسي"**. هذه الشخصية هي الأكثر إثارة للقلق في العصر الحديث، فهي تمثل الوجه المظلم للعلم والتقدم التكنولوجي. لا يظهر هذا الطبيب كمعالج يسعى لشفاء مريضته، بل كمستغل عديم الضمير. يمتلك تكنولوجيا ثورية قادرة على "تحويل الكوابيس إلى متعة بصرية"، وهو مفهوم فاوستي بامتياز.
- فبدلاً من تفكيك الكوابيس لفهمها وعلاج أسبابها، يهدف إلى تحويلها إلى منتج قابل للاستهلاك، مستغلاً
- الحالة "الخاصة جدًا" لمريضته. يمثل هذا الطبيب الطموح العلمي الذي تجاوز كل الحدود الأخلاقية
- فهو لا يرى في مريضته إنسانًا يعاني، بل يرى فيها منجمًا فريدًا للبيانات والتجارب. إنه يجسد الرعب
- التكنولوجي الحديث، حيث يمكن لأعمق مخاوفنا وأكثر أسرارنا خصوصية أن تتحول إلى سلعة أو
- أداة
في يد الآخرين.
**عندما تصبح الكوابيس واقعًا تيمات الرواية العميقة**
من خلال تفاعل هذه الشخصيات، تطرح "سيدة
الكوابيس" مجموعة من التيمات العميقة. أولها وأوضحها هو **طبيعة الحقيقة
والذاكرة**. كيف يمكننا الوثوق بذكرياتنا، خاصة تلك المشبعة بالصدمة والألم؟
تكنولوجيا الطبيب النفسي التي تجعل الكوابيس مرئية تضيف بعدًا جديدًا لهذا السؤال.
هل ما نراه هو الحقيقة الموضوعية، أم أنه مجرد تجسيد لمخاوف ذاتية مشوهة؟ الرواية
تجعل القارئ يشكك في كل شيء، فالحقيقة ليست معطى ثابتًا، بل هي ساحة صراع بين
روايات متعددة.
- التيمة الثانية هي **الجنون كقناع وسلاح**. لم يعد الجنون هنا مجرد حالة مرضية، بل أصبح أداة
- استراتيجية. تستخدمه المرأة للنجاة، بينما يستغله الطبيب لتحقيق طموحاته، ويحاول المنتقم اختراقه
- للوصول إلى الحقيقة. هذا الاستخدام المتعدد للجنون يفكك المفهوم التقليدي له، ويظهره كحالة نسبية
- يمكن توظيفها لأغراض مختلفة، مما يلقي بظلال من الشك على قدرتنا على التمييز بين العاقل
- والمجنون في عالم فقد بوصلته الأخلاقية.
أما التيمة الثالثة، فهي **نقد الحداثة
التكنولوجية**. الرواية تحذر من المسار الذي قد يسلكه العلم عندما ينفصل عن
الإنسانية. فكرة تحويل الألم النفسي إلى "متعة بصرية" هي استعارة قوية
للمجتمع الاستهلاكي الذي يسعى لتحويل كل شيء، حتى المعاناة، إلى شكل من أشكال الترفيه.
إنه عالم يستمتع بمشاهدة الكوارث من خلف شاشة، والطبيب في الرواية يأخذ هذا
المفهوم إلى أقصى درجاته المرعبة، حيث يصبح هو المشاهد الأول لجحيم الآخرين.
**بين سطور الجحيم هل من مخرج؟**
يتركنا ملخص الرواية أمام سؤال مفتوح يعكس جوهر
الصراع: "فهل ينال أحدهم مبتغاه، أم يُفتح باب على الجحيم لهم جميعًا؟" الإجابة،
على الأغلب، ليست بسيطة. في عالم "سيدة الكوابيس"، لا يوجد فائزون
واضحون. المنتقم قد يحصل على ثأره، لكنه قد يخسر روحه في المقابل. المرأة قد تنجو
من حبل المشنقة، لكنها قد تظل سجينة أبدية في جحيم عقلها. الطبيب قد يحقق إنجازًا
علميًا، لكنه قد يطلق العنان لقوة لا يمكن السيطرة عليها.
- إن "باب الجحيم" الذي تشير إليه الرواية ليس بالضرورة مكانًا ميتافيزيقيًا، بل هو حالة نفسية
- ووجودية. إنه الجحيم الذي نصنعه بأيدينا عندما نسمح لدوافعنا المظلمة بالسيطرة، وعندما نتخلى عن
- إنسانيتنا في سبيل أهدافنا. السؤال الأخير الذي يطرحه الملخص "هل تتحقق الأحلام، أم تسيطر سيدة
- الكوابيس؟" هو سؤال يضعنا في قلب المفارقة. في هذا العالم المشوه، قد يكون تحقيق الحلم هو نفسه
- انتصار للكابوس.
في الختام
تبدو رواية "سيدة الكوابيس" لشريف سالم أكثر من مجرد رواية رعب نفسي. إنها مرآة مظلمة تعكس مخاوف عصرنا: ضياع الحقيقة في عالم متشظٍ، وتآكل الحدود الأخلاقية أمام التقدم العلمي، وصراع الإنسان الدائم مع شياطينه الداخلية.
إنها دعوة لاستكشاف تلك الزوايا المعتمة فينا، ليس من
باب الفضول، بل من باب التحذير، قبل أن نجد أنفسنا جميعًا عالقين في كابوس لا
يمكننا الاستيقاظ منه.